عبدالعزيز بن ناصر البراك: منذ أكثر من أربعة عقود مضت كان كثير من طلاب المدارس وبعض الأهالي يذهبون إلى خفس دغرة جنوب الدلم للتنزه في البراري المخضرة، بعد هطول الأمطار وجريان السيول مكونة بعد توقفها بحيرة في الهجلة، وربيعا في المرداسية المتميزة بذلك، وخاصة بعد سفلتة الطريق المؤدي إليه. وخلال تلك الرحلات كانوا يشاهدون قرب عين خفس دغرة مساكن طينية كثيرة ومستودعات ومبنى جميلا من الخرسانة المسلحة واسطبلا للخيول، وكل ذلك بترتيب وتنظيم دقيق.
وقد كنت عندما أشاهد تلك أتساءل عن هذه المساكن والقنوات الكبيرة، فلا أجد جوابا ممن هُم حولي في رحلاتنا المتكررة. عندئذٍ بدأت باستقصاء المعلومات عن هذا الموقع من كبار السن في الدلم ممن عاصروا قيامه، وكذلك من بعض المسؤولين الذين عملوا في خفس دغرة ومنذ خمس سنوات وأنا مواصل البحث لجمع المادة التاريخية لهذا الموقع الذي هو جزء من تاريخ هذه البلاد وعنصر من عناصر البناء لموحد هذا الكيان الملك عبدالعزيز – رحمه الله – فهو مشروع زراعي أقيم في العقد السادس من القرن الماضي، ولتتضح الصورة لدى الجميع واصلت البحث والمقابلات الشخصية للمعاصرين لهذا المشروع، وذلك لرصد مفردات هذا المشروع الضخم الذي، هو أكبر مما يتصوره البعض حيث إنه كان مشروعا من مشاريع الملك عبدالعزيز – طيب الله ثراه – التنموية وأثراً من آثاره الرائدة في استغلال الموارد الطبيعية والطاقات البشرية لإنماء البلاد وإنعاش الحركة الاقتصادية آنذاك. فالمشروع كان زراعيا وينضوي تحت إدارة مشروع الخرج الزراعي الذي بُدئ فيه عام 1354هـ ،ولقد اجتمع لدي حصيلة تاريخية جيدة حول هذا الموضوع، وهذا المنشور جزء منه.
وكانت مصادري لجمع المعلومات التاريخية متنوعة بين شفوية ومكتوبة وتقارير صدرت آنذاك إضافة إلى مشاهداتي للمشروع منذ أكثر من ثلاثة عقود وما صحب ذلك من تصوير فوتوغرافي. وكان من أبرز الرجال الذين قابلتهم هو محمد الطيب الطاهر الذي أمدني مشكوراً بمعلومات مكتوبة، وهو ممن عمل في المشروع منذ شبابه، حتى أصبح مسؤولا فيه لإجادته للغة الإنجليزية وعُين بعد انتهاء المشروع مديراً لمكتب الزراعة في الدلم حتى أحيل على التقاعد.
وكذلك ناصر إبراهيم آل سالم الذي عمل في المشروع أكثر من عشر سنوات ويجيد بعض المفردات الإنجليزية، وكذلك عبدالله بن فهيد بن كريوين العتيبي الذي عمل حارساً للمشروع مدة طويلة، فقد أمدني هو وابن سالم مشكورين بمعلومات عامة، وبعض الطرائف والقصائد سجلتها على أشرطة كاسيت.
وها أنذا أنشر تلك المعلومات لإبراز اهتمام الملك عبدالعزيز – رحمه الله – بالمشاريع الكبيرة، ولتتضح الحقيقة عن تلك الأطلال وبقايا المباني الطينية في خفس دغرة، آملاً من وكالة الآثار والمتاحف في وزارة المعارف تبني هذا المشروع وصيانته والاهتمام به، لأنه يمثل رمزاً من رموز التنمية الزراعية في عهد الملك عبدالعزيز – رحمه الله – رغم محدودية الموارد والإمكانات الفنية آنذاك، ولكنها كانت عزيمة الرجال القوية.
ولندلف الآن إلى الموضوع:
فبعد توحيد المملكة العربية السعودية، وفي ظل الأمن الذي يعيشه الوطن اتجه نظر الملك عبدالعزيز – طيب الله ثراه – إلى تأمين العنصر الغذائي من إنتاج بلده، فاتجه بنظره إلى مملكته الواسعة، فوجد ان الخرج منطقة ذات مياه وفيرة بها عيون مائية كبيرة، وأرضه خصبة وقريب من العاصمة الرياض.
يقول الأستاذ أحمد عبدالغفور عطار في كتابه الخرج والشرائع الذي صدر في عام 1365هـ ما نصه (فالخرج فكرة الملك عبدالعزيز أبداها لابن سليمان وأقامه عليها لتحقيقها، فتسلمها ابن سليمان مختومة بختم الملك وفضها ودرس الفكرة درساً جيداً، ثم عمل على تحقيقها بتعاليم متبعة).
واستطرد قائلاً: (فجلالة الملك من ثقته في ابن سليمان ان جعله القيِّم على تنفيذه فكرة زراعة الخرج وذلك في عام 1354هـ.
وهذه الفكرة أعطت لابن سليمان نجاحاً كبيراً حيث جد واجتهد وأرسل إلى كثير من الدول يطلب الآلات الفنية والميكانيكية والبذور والسيارات وأحضر العمال والمزارعين الوطنيين، ومسح الأرض، وبدأت التجارب الأولى لهذه الزراعة في عام 1358هـ.
أشرف معالي الشيخ عبدالله السليمان – رحمه الله – بنفسه على هذه الزراعة وجاء يوم الحصاد يوم الفرح والابتهاج، والشكر لله على هذا النجاح الكبير وأسرع بالبشر يُبشر لمن كانت له اليد الطولى والتفكير بهذا المشروع الملك عبدالعزيز – طيب الله ثراه – فحمد الله وشكره على هذه البشرى، ثم يقول عطار – كذلك (نعم لقد نجحت التجربة نجاحاً منقطع النظير وأثبتت أرض الخرج من جديد بالامتحان كفاءتها لأنها تنتج قمحاً من أحسن أنواع القمح وأجودها) انتهى.
وقد قامت شركة أرامكو آنذاك بدراسة المشروع وتطويره، فأحضرت لجنة أمريكية متخصصة في الزراعة إلى الخرج لتقديم المشورة الفنية في الزراعة وري الأرض الصالحة واستصلاح الأراضي وتعاقب على هذا المشروع عدة شركات وبعثات زراعية سواء عربية أو أمريكية.
ويضم المشروع الزراعي حسب تقرير البنك الدولي للإنشاء والتعمير من الأراضي ما مساحته (1730) هكتار (الهكتار 10.000م) منها (850) هكتار في خفس دغرة.
وخفس دغرة أرض منبسطة غنية بمكونات الأرض الزراعية، ويتوافر فيها مياه صالحة للاستغلال الزراعي بكميات كبيرة لوجود عين خفس دغرة فيه، ويبعد خفس دغرة حوالي 25كلم جنوب شرق الدلم، وقد عُبِّد الطريق المؤدي إليه وتمت سفلتته. وعين خفس دغرة التي تقع في حضن جبل الدَّام على شكل خسف لاصق بأسفل الجبل، وكانت تلك العين عميقة، ومياهها قريبة من سطح الأرض، وكانت مستقرة غير سائحة. وقد وضع عليها مضخات ضخمة لرفع الماء لسقيا الأراضي الزراعية في مشروع خفس دغرة الزراعي وذلك في حوالي 1358ه، وقد جفت هذه العين بفعل السحب الهائل للمياه الجوفية، ولم يبق إلا آثارها التي أصبحت مكانا تجتمع فيه جزء من سيول وادي العقيمي مما خفف من خطورته على الدلم.
وقد بدئ في مشروع خفس دغرة الزراعي ضمن مشروع الخرج في عام 1358هـ، وتولى إدارته والإشراف عليه عدة أشخاص من أبرزهم إبراهيم الحبودل.
وكان من العاملين في إدارة معالي الشيخ عبدالله السليمان، وهذا الرجل كان يعتبر من الرجال الأكفاء آنذاك من حيث الإخلاص في العمل، والحزم والصرامة في الأعمال الموكلة إليه.
وعند بدء المشروع لم تكن هناك آليات زراعية لحرث الأرض وشق القنوات المائية، فلم يكن سوى المسحاة التي تستخدم بأيدي الرجال والمحراث الذي يجر بواسطة الثيران.
وقد استقطب هذا المشروع كثيراً من المواطنين للعمل فيه، حتى بلغ عددهم في فترة من الفترات حوالي (1000) رجل ما بين إداريين وفنيين وحرفيين ومزارعين، وقد تناقص هذا العدد بعد جلب الآلات الزراعية للمشروع، ولقد استقر كثير من هؤلاء العمال بعوائلهم في مساكن من الطين بنوها بأنفسهم حيث يقوم بعض البنائين المهرة ببناء تلك المساكن، ويقضون وقت فراغهم في البناء لبعضهم البعض بصفة جماعية، وبأجور زهيدة، وقد كان يجلب لهم جريد النخل والخشب من الدلم بواسطة بعض المزارعين وبعض تلك المساكن التي بنيت كبيرة، وهي مخصصة للعوائل، والبعض الآخر صغير قد لا تتجاوز مساحة بعضها غرفة واحدة وهي مخصصة للعزاب، وقد قام إبراهيم الحبودل مدير المشروع ببناء مجمع سكني جنوب غرب الجامع الحالي ومجمع مستودعات لخزن الحبوب حفاظا عليها من الأمطار.
وفي عام 1363هـ استقدم معالي الشيخ عبدالله السليمان – رحمه الله – مقاولا مصريا يدعى علي مصطفى، واستقدم معه عمالا كثيرين حدادين وعمال بناء ومهندسين. وقام المقاول بتشييد مبنى الكهرباء الذي أقيم قرب العين لتوفير الطاقة الكهربائية للمضخات الكهربائية التي ترفع الماء من العين. وقد سمي هذا المبنى (العنبر) وهو المبنى الرئيس من تلك المباني، وهو مبنى من الخرسانة المسلحة، وهو جميل من الناحية المعمارية والشكل الجمالي وقوة البناء وقد كسيت واجهاته بالحجر ومازال قائما وهو تقريباً المتبقي من آثار المشروع.
وقد صمم في داخل هذا المبنى رافعة متحركة قرب السقف على امتداده من الشرق إلى الغرب، وذلك لرفع المكائن المطلوب تركيبها أو نقلها من مكان إلى آخر للصيانة داخل العنبر.
وكانت الماكينة المركبة في المبنى ضخمة ومعها مولد كهربائي كبير لتشغيل مضخات المياه ويتراوح عدد المضخات المركبة على العين ما بين عشر إلى اثنتي عشرة مضخة كهربائية.
أما المكان السفلي من المبنى، وهو ما يطلق عليه القبو، فقد أعد خصيصاً للجهاز المركب فيه لمساعدة الماكينة الضخمة على العمل بسرعة عند بداية التشغيل.
وقد بُني حول المبنى الرئيس بعض المستودعات الحديثة لقطع الغيار، وكذلك بعض المساكن الجميلة والمطلية بالجص الأبيض، وهي مخصصة للمسؤولين عن المشروع. ومن الناحية الشمالية أنشئت اسطبلات للخيول الخاصة بالملك عبدالعزيز، وهي من نوع العبيات والحمدانيات الأصيلة. وقد أزيلت أغلب تلك المباني من جراء السيول.
ولتوفير الجص للمشروع فقد أنشئ بالغرب منه مجصة، وهي عبارة عن مبنى دائري مخروطي ومفتوح من فوق، وبه فتحات في أسفله لإدخال الحطب لحرق مادة الجص الذي يستخدم في تبييض بعض المباني في المشروع، ولما لم يكن آنذاك وجود فنيين زراعيين، فقد تم الاستعانة بالخبرات الوطنية ممن اكتسبوا خبراتهم من مزاولتهم الزراعة في بلدانهم في أنحاء المملكة، ثم استقدم أربعة خبراء زراعيين من مصر تولوا الإشراف على الزراعة، وعندما تولت شركة أرامكو المشروع استقدمت خبراء زراعيين ومهندسين من أمريكا.
ولما كانت طريقة الري غير كافية في بداية المشروع، فإنه بعد تسلم شركة أرامكو أعمال المشروع قامت بتجميع المياه المستخرجة في انبوب واحد كبير ومد قناة كبيرة واختير مكان مرتفع تتفرع منه القنوات العشر لري كافة المنطقة المزروعة.
وقد كان إنتاج المشروع في بدايته مقتصراً على الحبوب والأعلاف ثم أضيفت زراعة كافة أنواع الخضراوات والفواكه، وبعض المكسرات مثل الفول السوداني، وقد قام الملك عبدالعزيز – رحمه الله – بزيارة المشروع في خفس دغرة مرة واحدة اطلع على المزارعين والخيول والإبل، وتم تجهيز المخيم الملكي فوق الجبل المطل على المشروع من الجهة الغربية الذي يصل إليه الطريق المسفلت حالياً، ومن يشرف عليه يجده منبسطاً ويطلع على الموقع بأكمله.
كما زار المشروع الملك سعود – رحمه الله – عندما كان ولياً للعهد مرتين وأصبح مشروع خفس دغرة آنذاك متنزها ومتنفساً لكثير من الأفراد ورجال الدولة وكثير من الأهالي.
ولأن ذاك التجمع السكاني في المشروع يحتاج إلى بعض المواد الاستهلاكية فقد قام مجموعة من التجار بتسويق بعض المواد الغذائية وغيرها في أماكن تجمع العمال.
ولقد كان للشعر الشعبي دوره في تصوير تلك الحياة العمالية بكل تفاعلاتها اليومية ومعاناة المخلصين منهم، لذا فيجدر بنا ان نورد هنا أنموذجا طريفاً مصورا التغيير الإداري الحاصل في المشروع، فعندما تسلمت شركة أرامكو مشروع خفس دغرة أخذت الإدارة الجديدة في إحداث بعض الإصلاحات وتغيير في برنامج الزراعة باستخدام الميكنة، فحصل مع انتقال الإدارة إلى شركة أرامكو خلل إداري مؤقت أدى إلى بعض الفوضى والسرقات من بعض العمال فقال أحد الشعراء العاملين في المشروع قصيدة نبطية صوّر فيها تلك الحالة حيث ذكر ذلك الشاعر النبطي ناصر بن إبراهيم بن سالم آل سالم مضمنا بعض تلك الأبيات ببعض الكلمات الإنجليزية التي تعلمها في المشروع فيقول:

 

يا راكبٍ من عندنا بكسٍ أصفر
إنحر حبُودل وقِلْ ترى الخفس مازان
سلَّم عليه عداد مزنٍ تظّهر
وعداد ما ينبتْ من العشبْ حُوذان
سلامٍ أحلى من حليبٍ بسكر
وأحلى من البارد على كبد عطشان
قله ترى خادمك قام يتفكَّر
من يوم شاف الخفس من عقبكم شان
هذا ينزَّل فيه وهذا يحدَّر
خِربتْ المكينة يوم جونا المريكان
وركِّب على القَتْ الحويل الدركتر
حطوا مكانه كَافَ لاَورَ ومِدياَن
وأكياس عيشٍ كل يوم تظهَّر
والرزعَ كلَّه ما يجي وجبة حصان

كما أن الشاعر عبدالعزيز بن محمد اليعيش – رحمه الله – أحد المسؤولين في إدارة الحسابات في المشروع قد تأثر لهذا الوضع فقال قصيدة نبطية ضمنها أسفه لما حدث مستخدماً كذلك بعض الكلمات الإنجليزية والأسماء فيقول:

قال من عالمٍ بامثاله يقوس
قبل يافع قايسٍ قُوله قياس
يالله يالمطلوب يا محي النفوس
يا مريفٍ بالغصن عقب اليباس
إن تساعدني على دهر عبوس
شاب راسي منه وأحدث بي عماس
زلت أيام الطرابة والعروس
ذا زمان امريك والمستر كواس
عقب مني في زراعتي مريوس
عقب كيل الهيل بخشوم الطياس
راح راس الروس قلاع الضروس
ما بقي إلا اللحاس وقمام الكناس

وأخيراً قارئي العزيز هل تعرف بئر جليدانة بالتأكيد انك تريد الجواب حيث يذكر حارس المشروع عبدالله بن فهيد بن كريوين العتيبي انه عندما احتيج لتوفير المياه العذبة الصالحة للشرب فقد أمر المشرف على المشروع إبراهيم الحبودل رجلاً يسمى جليدان بن جليدان بأن يحفر بئراً شمال عين خفس دغرة بحوالي مسافة 5كم ووضع عليها سانية يعمل على رفع الماء العذب ويصب في الحوض المقام بالقرب من البئر ليشرب منها العاملون في المشروع وقد سميت هذه البئر منذ ذلك الوقت باسم جليدانه نسبة إلى من قام بحفرها وهي موجودة حتى الآن على يمين الطريق عند انعطافه باتجاه عين خفس دغرة.
وختاماً آمل أن أكون قد وفقت في ايضاح بعض الحقائق للقراء الكرام راجياً ممن لديه معلومة أو قصيدة حول هذا الموضوع تزويدي بها ولك أخي القارئ حبي وتقديري.

 

المصدر