عبدالعزيز بن ناصر البراك: تعد محافظة الخرج من المحافظات التي برز فيها شعراء لهم إنتاج شعري غزير اتسم بالقوة في بنائه وتنوع مشاربه، ولكن تبقى مسألة النشر التي تعتبر حجر عثرة عند بعضهم، وشاعرنا الذي نحن بصدد الحديث عنه هو واحد من هؤلاء، فقد آثر عدم الظهور في سوق الشعراء رغم تجربته التي تمتد أكثر من ثلاثة عقود ولكن هذه التجربة الشعرية محبوسة لم تر النور ولم ينشر منها إلا النزر اليسير، إنه صناجة الدّلم، كما يحلو للبعض ان يدعوه به، وهو لقب أسبغه عليه معالي الشيخ راشد بن صالح بن خنين المستشار بالديوان الملكي في إحدى الحواريات بينهما حيث قال:

 

فخر العُتي ويا صنّاجة الدلم
أهلاً وسهلاً لقد أغنيت عن كلمي
أثلجت صدري وكل القاطنين بها
حب المغاني من طبعي ومن شيمي
لا فض فوك ولا ضيعت مقوله
واصل نشيدك مشكوراً بلا سأم
لقد سررت بما قد ضم شعركم
من الإشادة والإبراز للقيم
وواصفاً بلدة عشنا بتربتها
والناس تقصدها للعلم والحكم
إذ كان بحر علوم الدين يسكنها
شيخي ابن باز الذي في الناس كالعلم
الخرج منطقة كبرى ومخصبة
والأم إن رُمْتَها فاسأل عن الدلم

وكان معالي الشيخ راشد قد اطلع على قصيدة شاعرنا التي بعنوان (ترسانة الجود) والشاعر الذي ننشر عنه اليوم بعض إنتاجه هو الأستاذ عبدالعزيز بن عبدالرحمن العتي، الذي ولد في الدلم عام 1366هـ في بيت حريص على العلم ومكارم الأخلاق، ودرس في مدارسها ليلتحق بعد انتهاء دراسته بسلك التعليم في عام 1384هـ وتدرج في زلفة ليدير مدرسة سعد بن معاذ الابتدائية بالخرج. حتى التحق بإدارة التعليم للبنين بالخرج عند افتتاحها عام 1401هـ مديراً لشؤون الموظفين وما زال على رأس العمل مديراً للشؤون الإدارية والمالية حتى تقاعد بعد إكماله السن النظامية.
وشاعرنا من الطلائع الأولى في الحركة الأدبية في الخرج، حين بدأ نظم الشعر يافعاً لما يجاوز الخمسة عشر ربيعاً بشعر يدل على نضج مبكر وفكر أصيل وشاعريته متدفقة، فها هو يقول هذه الأبيات وهو على مقاعد الدراسة، وهي قصيدة اعتذارية لصديق له في الدراسة حدثت بينهما جفوة بسبب زلة لسان من شاعرنا لصاحبه بقوله إنه أسود البشرة:
فقال يعتذر إليه:

تعطي وتسلب دنيانا وليس لنا
يدٌ بما تسلب الدنيا وتعطينا
كم عمّني فرح لما كسبت أخاً
سجلته بيدي بين المحبينا
لا غرو إن دمعت عيناي من فرح
لما كسبت أخاً في الله يغلينا
كسب الصداقة عندي كم أفضّله
على الدنانير لو كانت ملايينا

ثم قال:

يا أسود اللون لن تشقى به أبداً
إن السعادة في تقوى المطيعينا
من يطلب الفضل بالألوان منخدعٌ
الفضل أن نتقي الرحمن هادينا
لا تترك الوهم يمحو عزة رفعتْ
بلال وهو ينادي في المصلينا
أيضا أبو لهب ما سره نسبٌ
لما توعّده بالنار بارينا
فاللون لونٌ ومن قال البياض له
فضل على غيره جارى المجانينا

والقصيدة طويلة ولكن نقتصر على ما تم إيراده، وكان صاحبه هذا شاعراً فبعث إليه بهذه القصيدة معتذراً فقال:

قالوا الحماقة أعيت للمداوينا
فقلت مهلاً ففي الأخلاق تسكينا
حييت من كلم قد زانه أدب
عنوانه المجد من أغلى المحبينا
إن الذي سرنا بالعفو آلمنا
بالعفو أكثر مما كان.. يرضينا
يا صاح هذي يدي للصفح تطلبكم
ويشهد الله قلبي عن تآخينا
وكن كما كنت هدياً أستنير به
فأنت أنت الذي ما كان يغوينا
إني سأبقى مدى الأيام شاكركم
على الجميل وما أكبرتمو فينا
فاقبل تحيات مَن أهدى معانيه
إليك والتوبة الأولى ستكفينا

والأستاذ عبدالعزيز شاعر استكمل أدواته الشعرية وجمع إلى السليقة الموهبة وإلى اللغة الموسيقى، وتميز شعره بصدق العاطفة والصفاء فها هو يحيي ابن اخته سعود عندما نال درجة الماجستير فقال له:

حي الطموح وحي من عشق العلا
وأدر له وجه الرضى متهللا
قل يا سعود حماك ربك هكذا
تجنى العلوم ويمتطى ظهر العلا

وهنا تبرز العاطفة الجياشة في الخوف على ابن أخته من الحسّاد فيقول:

وطفقت أقرأ آية الكرسي من
خوف الحسود مسبحاً ومحوقلا

ثم يسدي النصح له فيقول:

واصل صعودك يا سعود إلى العلا
متأبطاً سِفر العلوم مؤملا
كحّل عيون القاعدين وقل لهم
إني نهلت من المعارف منهلا
ليس الشقاء شقاء من يسعى إلى
طلب العلا فينال ما قد أمّلا
إن الشقا شقاء من جلسوا على
درب التخلف ينظرون إلى الأولى

وصدق العاطفة وصفاؤها عند شاعرنا فتأتي من حرارة عاطفته وصدق إحساسه حيث وصفه واصفوه شاعراً يملك أزمّة البيان وأعته القوافي فهذا الأستاذ مصطفى السروجي يقوله عنه:

أيا عبدالعزيز العتي
رعاك الله من خلٍ وفي
أخو أدب وشعرك ذو معانٍ
وجرس ناعم عذب شجي
ملكت زمام ناصية القوافي
وأرسلت القصيد بدون عي
وزينت المجالس باللآلئ
وأطربت الحسان بكل حي

أما الشاعر عبدالرحمن بن عبدالله الملاحي فيقول مشيداً بشعره:

عتيُّ اسمع كلاماً شيقاً عجباً
من صاحب لا يروم الإثم والكذبا
الله يعلم ان الشعر يكرهني
لأنني أنتقي من قلبه الذهبا
ما كل شعر إذا ما قيل يطربني
لو كان صاحبه للفن منتسبا
لكن شعرك قد سر الفوائد به
كما يُسر بغيث صار منسكبا

والأستاذ عبدالعزيز العتي من أكثر الشعراء تعلقاً ببلده الدلم فلقد وصفها بشعر قيل عنه إنه أجمل ما كتب عن الدلم، أعجبت من سمعها وأعجبت صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض لما ألقيت بين يدي سموه في إحدى زياراته للدلم فأفضل على شاعرنا فدعاه (شاعر الخرج) والآن نقتطف منها الأبيات التالية حيث قال:

سفر من العز والأمجاد والقيم
تزهى به صفحة الماضي عن الدلم
حييت يا دلمي في خرجنا علماً
قد ارتدت حلة خضراء بالنعم
ترسانة الجود والخيرات يا بلدي
يا معقل الصيد والأحرار من قدم
لا المدح قصدي ولا التعريف يا دلمي
فأنت أشهر من نار على عَلَم
لكنني عاشق يحلو الحديث له
عمن يحب وعفواً إن نبا قلمي

ثم يصف هذا التطور المدهش للدلم في هذا العهد الزاهر بأمن ورغد العيش فيقول:

تطور تُدهش الرائي أصالتُه
في ظل ماضٍ عريق موغل القدم
ماضٍ عريق يناديني فأسمعه
يقول لي سل بني العباس عن كرمي
وحاضر مدهش قد لا أصدقه
لو لم تر العين شيئاً بالغ العظم
ترى النخيل بلا حصر ولا عدد
كالليل في لونه والشكل كالهرم
والزهر مال على زهر يداعبه
والغصن منحنياً يصغي إلى النغم
والريح تحمل عطر الزهر ينعشنا
أريجه فتخال النفس في حلم

ثم ينتقل شاعرنا إلى وصف آخر فيقول:

يؤمّك التاجر المزجي بضاعته
والممتري يمتري من فائض النعم
وطالب العلم يلقى فيك بغيته
والكل يأتيك من شاكٍ ومحتكم (1)
قصر الغني ومأوى الفقير أوى
لها المساكين من عرب ومن عجم
يا سلة الخبز للدنيا بأجمعها
يا عش طير الندى يا منبع الكرم
ما أنت في الخرج إلا زهرة فتحت
من حولها بشذا الأخلاق والحكم
ما أنت في الخرج إلا شمعة نشرت
نوراً يضيء لأهل الخرج في العتم
كليّة أنت للأمجاد ما فتئت
تزود الجيل بعد الجيل بالقيم
إني لأرفع رأسي بالفخار متى
سئلت عن بلدي أني من الدلم

وقد طرق شاعرنا جميع أغراض الشعر بتميز وتفوق له في المناسبات الوطنية أناشيد هي في غاية الجمال نورد منها هذه الأبيات من قصيدة ألقيت في حفل استقبال صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع والمفتش العام في زيارته للخرج في 30-2-1419هـ فيقول:

صفا اليوم وجداني ورقت مشاعري
وأثلج صدري ما رأيت وناظري
مواكب عز فوق أرض احتضنتها
فطابت بها نفسي وفاضت خواطري
أنا الخرج يا سلطان بتّ على لظى
من الشوق للقيا فطيبت خاطري
فأهلاً وسهلاً بالأمير ومرحباً
نشرت لكم حبي بتعبير شاعر

ثم انتقل في هذه القصيدة إلى ذكر مآثر الملك عبدالعزيز قائلاً:

سقى الله ذكرى من أتاها وشملها
شتات ونار الحقد تحت الأظافر
فكم بات طول الليل يعبد ربه
ويدعو ودمع العين ملء المحاجر

ثم قال:

يشرفني أن قلت إن بلادنا
هي الساحة الأولى لنصر مؤزر (2)
فبعد رياض الخير جاء موحداً
فكانت بلاد الخرج أولى البشائر
تلقته بالترحيب تطمع في فتى
سلالة عز عادل غير جائر
وفيها رجال في المعارك شأنهم
عظيم ورأي ثاقب في التشاور
رأوا أنه يسعى لتوحيد دولة
وتحكيم شرع الله لا للمظاهر
فصاروا جنوداً للإمام إذا مشى
مشوا خلفه بالسيف طوع الأوامر
إذا ما انتخى ضجوا بتكبير ربهم
وناجي صليل السيف قرع الحوافر
فتلمح ومض السيف وسط غبارها
كبرق بأعلى المزن لاح لناظر
فوحدها حتى تبادل أهلها
محبتهم في الله بعد التناحر

وشاعرنا حليم يغلب عليه الهدوء والرزانة والصبر حتى إذا ضاق به الموقف ذرعاً تفجر غيظاً وصب جام غضبه بكلمات هجائية جزلة العبارات ذات مغزى بعيد الدلالة، فها هو يتحدى قوما وقفوا في طريق نجاحه ووشوا به للوقيعة به حسداً وحقداً فقال فيهم:

وقفت في حلق من ضلوا ومن ظلموا
فهددوني وقالوا سوف ننتقم
وأشعلوها لظى حولي مدمرة
ولفقوا تهمة في إثرها تهم

ثم قال:

صوت الصفائح يؤذي وهي فارغة
أما إذا امتلأت فالصوت ينكتم
ما حركت حملة الأشرار في جسدي
لو شعرة بل وما فكرت أنتقم
تحت الصواعق مولود أنا فلذا
يقرقع القوم من حولي فأبتسم

وشاعرنا يقدر لأهل الفضل فضلهم وجهدهم فها هو يشيد بأحد رجالات التعليم الذين خدموا حوالي ثلث قرن بجد وإخلاص يشهد به الجميع حتى غدت المدرسة الثانوية التي كان يديرها مضرب المثل في الانضباط والأخلاق والتفوق العلمي وبعد ان تقاعد انتقل إلى موقع آخر يخدم فيه وطنه ومجتمعه رئيساً لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنه الشيخ عبدالله بن محمد الخليفة وهو في نفس الوقت صديق عزيز لشاعر يقول في حقل تكريمه عند التقاعد:

ألقى السلاح موشحاً بعطائه
من بعد أن شهدوا بحسن بلائه
حمل السلاح بثلث قرن لم تنل
منه السنون ومن كريم عطائه
يا ثلث قرن قد قضاه مجاهداً
حدث بسيرته وصدق مضائه
فهو المجاهد مبدأً وعقيدة
يبني العقول مناضلاً ببنائه
سيان من حمل السلاح مجاهدا
في ساح حرب غارقاً بدمائه
والناشرون العلم في ساح الهدى
هذا الجهاد وذاك من أصدائه
هل أن للسيف الصقيل بأن يرى
مستغرقاً في النوم وسط خبائه؟
لا هنت يا رمز الجهاد ولا خبا
نورٌ أنار العقل من ظلمائه
اجلس قرير العين قد خرجت مَن
حملوا سلاحك وانضووا للوائه
حملوا الرسالة بعد ان سلمتها
طوعاً كنِسر حطّ من عليائه

والقصيدة طويلة ولكن نختتمها بما ختم بها الشاعر بقوله:

وعزاؤنا هو أنه من ساحنا
يمضي لساح آخر لبنائه
ساح نحب جميعنا إعلاءه
والشيخ أقدرنا على إعلائه

كما احتلت المرأة حيزاً كبيراً من اهتمامات شاعرنا منتصراً لها من بعض الرجال الأجلاف الذين يكرّمون من يجلس معهم عند مرور ذكرها وهم اليوم قلة قليلة إذ بالتعليم والوعي أصبح كثير من الرجال يقدرون المرأة ويحترمون رأيها، فهي الأم الحنون والزوجة الرؤوم والأخت والبنت اللتان هما زينة الحياة وبهجتها. لذا فقد وجه اللوم لهؤلاء الرجال ومعالجاً ذلك في ثلاث قصائد طويلة وكانت تلك القصائد قبل ثلاثة عقود ونورد مقتطفا من إحدى تلك القصائد حيث يقول شاعرنا:

في هجعة الليل ناجتني بهاتفها
بالمر من قولها لم تخش عقباه
ناظرتها في حديث واستمعت لها
وقتاً طويلاً حديثاً كان فحواه
للرب أشكو بني الإنسان إذ بخسوا
حق الفتاة وهذا الشيء نأباه

ثم قال على لسانها:

عاشرت من يدعي عقلاً فكبلني
أواه من قسوة الإنسان أواه

والقصيدة طويلة تصل إلى ستين بيتاً نأمل من شاعرنا نشرها في ديوان تحقيقاً لرغبة أصدقائه ومحبي الشعر والأدب الرفيع حيث ما زال شاعرنا متردداً في نشر قصائده في ديوان خاص به وهذا مما آخر انتشار قصائده رغم جمالها وقوتها، فكثيراً ما يلح عليه محبوه في إصدار ديوانه فقد تعرض شاعرنا لعتاب أخوي من الدكتور عبدالرحمن بن ناصر الداغري حيث قال عندما اجتمع به: يفرحني بعزمه على نشر قصائده ولكن طال الوقت على هذا الوعد فكان هذا العتاب لأبي عبدالمجيد:

أبا عبدالمجيد إليك مني
رسالة عاتبٍ للشعر حادي
عهدناك المجنح في خيال
تصوغ الشعر عذباً ذا سداد
تصوغ لحونه من بحر در
وتعزف نغمة في لحن شاد
تواعدنا بديوان قريب
وهذا العتب عنوان الوداد
فعجّل – يا رعاك الله – إنا
بشوق للطريف وللتلاد

وأختم بالشكر الجزيل لشاعرنا الأستاذ عبدالعزيز العتي لمساهمته معي في إعطائي كثيرا من القصائد الجميلة التي تم نشر أكثرها في كتاب شعراء من الدلم لكاتب هذه الأسطر. والشكر موصول لك أخي القارئ.

 

(1) يشير الشاعر في هذا البيت إلى فترة قضاء سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إبان كان قاضيا للخرج ومقر إقامته في الدلم في الفترة من 1358 – 1371هـ.
(2) يشير الشاعر في هذا البيت إلى معركة الدلم عام 1320هـ التي انتصر فيها الملك عبدالعزيز على خصمه.

 

المصدر